|
|
 |
|
|
رقم : |
2635 |
عدد مشاهدات : |
3349 |
تأریخ الإضافة
: |
2010-06-22 |
|
تفريق العصرانيين بين السنة التشريعية غير التشريعية |
|
يقوم مبدأ تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية على مبدأ التمييز بين بشرية الرسول ونبوته, ومن القضايا التي تلتقي فيها العصرانية في الشرق والغرب يهوديها ونصرانيها ومسلميها في هذه القضية، التي يعبر عنها أحيانًا بمبدأ التمييز بين ما هو إلهي Dinvine وبشريHuman في الدين. ولعل لليهود والنصارى عذرهم في المناداة بهذا المبدأ؛ لأن الحاخامات والباباوات عندهم زعمت أن كل ما يصدر منها هو وحي من عند الله، وادعت هذه الطبقة لنفسها العصمة من الخطأ في آرائها وأقوالها، بل وبلغ التطرف نهايته في المسيحية في ادعاء ألوهيته المسيح، ولهذا كانت المطالبة بفصل ما هو إلهي ومصدره الإله، عما هو بشري ومصدره البشر، وتأكيد بشرية المسيح مطالبة لها مسوغاتها ودوافعها في اليهودية والمسيحية (254) ، إذ قصد من ذلك إزاحة القدسية عن الإضافات البشرية للكتب المقدسة، وإزاحة القدسية عن طبقة رجال الدين، واعتبارهم في منزلة عادية كسائر البشر، واعتبار آرائهم وتفسيراتهم للدين آراء بشرية تخضع للنقد وتقبل الخطأ والصواب. وقد اتخذت فكرة الفصل بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري مبدأين في الإسلام على أيدي العصرانيين: الأول: التمييز بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته. الثاني: التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء. ونتحدث هنا عن المبدأ الأول، أما المبدأ الثاني فسوف يأتي الحديث عنه إن شاء الله. ويشرح عبد الوهاب خلاَّف مبدأ التمييز بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته، فيقول تحت عنوان (ما ليس تشريعًا من أقوال الرسول وأفعاله): «ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال، إنما يكون حجة على المسلمين واجبًا اتباعه، إذا صدر عنه بوصفه أنه رسول الله، وكان مقصودًا به التشريع العام والاقتداء؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان كسائر الناس، اصطفاه الله رسولا إليهم، كما قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [ الكهف: 110] 1- فما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية من قيام وقعود، ومشي ونوم، وأكل وشرب فليس تشريعًا؛ لأن هذا ليس مصدره رسالته، ولكن مصدره إنسانيته، لكن إذا صدر منه فعل إنساني ودل على أن المقصود من فعله الاقتداء به كان تشريعا بهذا الدليل. 2- وما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب في الشئون الدنيوية، من إتجار أو زارعة، أو تنظيم جيش أو تدبير حربي، أو وصف دواء لمرض أو أمثال هذا، فليس تشريعًا أيضًا؛ لأنه ليس صادرًا عن رسالته، وإنما هو صادر عن خبرته الدنيوية وتقديره الشخصي، ولهذا لَمَّا رأى في بعض غزواته أن ينـزل الجند في مكان معين، قال له بعض صحابته: أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الصحابي: ليس هذا بمنزل، وأشار بإنزال الجند في مكان آخر لأسباب حربية بَيَّنها للرسول. ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أهل المدينة يؤبِّرون النخل أشار عليهم ألا يؤبِّروا، فتركوا التأبير (يعني التلقيح)، وتلف الثمر، فقال لهم: أبِّروا، أنتم أعلم بأمور دنياكم. 3- وما صدر عن رسول الله ودل الدليل الشرعي على أنه خاص به، وأنه ليس أسوة فيه فليس تشريعًا عامًّا، كتزوجه بأكثر من أربع زوجات؛ لأن قوله تعالى: { فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} دلَّ على أن الحد الأعلى لعدد الزوجات أربع، وكاكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة (خزيمة) وحده؛ لأن النصوص صريحة في أن البيِّنة شاهدان. ويراعى أن قضاء الرسول في خصومه يشتمل على أمرين: أحدهما إثباته وقائع، وثانيهما: حكمه على تقدير ثبوت الوقائع. فإثبات الوقائع أمر تقديري له وليس بتشريع، وأما حكمه بعد تقرير ثبوت الوقائع فهو تشريع.. ولهذا روي البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصوم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها. والخلاصة: أن ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال في حال من الحالات الثلاث التي بينَّاها، فهو مِنْ سنته ولكنه ليس تشريعًا ولا قانونًا واجبًا اتباعه، وأما فيما صدر من أقوال وأفعال بوصف أنه رسول ومقصود به التشريع العام واقتداء المسلمين به فهو حجة على المسلمين، وقانون واجب اتباعه . (255) ومبدأ تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية من المبادئ الهامة عند سيد خان، وقد نقلنا هذا الرأي من قبل عنه، وقلنا: إنه حتى الأحاديث التي يقبلها وتصح فيها شروطه فهو يقسمها إلى قسمين: أحاديث خاصة بالأمور الدينية، وأحاديث خاصة بالأمور الدنيوية، فالأحاديث في دائرة أمور الدين هي الملزمة عنده وعلى المسلمين أن يستمسكوا بها، أما الأحاديث في أمور الدنيا فهي غير داخلة في مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقًا. ويرى أن كل ما جاء في هذا المجال فهو خاص بظروف وحالة العرب في زمان النبوة، وتشمل الأمور الدنيوية كل المسائل السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية، أما أمور الدين فهي تختص فقط بالعقائد والعبادات. (256) ولا ينفرد (سيد خان) بتوسيع دائرة السنة غير التشريعية إلى الحد الذي شرحناه، بل يشاركه في هذا الرأي آخرون، وهذا يدل على مدى خطورة هذا المبدأ، إذ أنه عمليًّا ينتهي إلى حَصْرِ الدين في مجموعة العقائد والعبادات فقط. يقول (أحمد كمال أبو المجد): «إن كثيرًا من أقواله وأفعاله (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم ) قد صدرت عنه بحكم تلك البشرية، دون أن يكون المقصود منها التشريع وتقرير الأحكام الملزمة للناس من بعده». (257) وفيما يبدو أن هذا هو رأي محمد سليم العوا في بحثه لهذا الموضوع . (258) فما هي الحجج التي تساق لتقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية؟ يعتمد أصحاب هذا الرأي على عدد من الأدلة والحجج، ونناقش فيما يلي ما أودره الشيخ (خلاَّف) فيما نقل عنه قبل قليل وما يورده غيره. الحجة الأولى : أفعال الرسول الجبليَّة يقال: إن من أقسام السنة غير التشريعية ما صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم من أفعال بمقتضى جبلته البشرية وطبيعته الإنسانية، مثل حركات الجسم، وتصرفات الأعضاء، أو القيام أو القعود في بعض المواطن أو في بعض الأزمنة اتفاقًا. وفي حقيقة الأمر أن في هذا النوع من أفعال الرسول نوع من الاشتباه، يوقع بعض الناس في اللَّبس. وممن شرح هذا الأمر شرحًا وافيًا العلامة الشوكاني، فأوضح أن هذا النوع من الأفعال ليس فيه أسوة أو قدوة ولا يتعلق به أمر باتباعه أو نهي عن مخالفته، ولكن مع ذلك فإن هذه الأفعال تدل على إباحتها، والإباحة من الأحكام الشرعية. (259) ومن المتأمل في هذا النوع من الأفعال الجبلية يتضح أنها تلك الأعمال التي لا اختيار للمرء لهيئتها وكيفيتها في لونه وطوله وصفة وجهه، فكذلك لا يتأسى به في أفعاله الجبلية؛ لأن ذلك التأسي لا يملكه أحد، ولا يدخل في اختياره ولا يقدر عليه حتى لو أراده. وعلى هذا فمن يطلق على هذه الأفعال أنها ليست تشريعية، بمعنى أنه ليس فيها تأسٍ ولا اقتداء، فهو إطلاق صحيح. ومَنْ قال: إن هذه الأفعال تشريعية لأنها تدل على حكم شرعي وهو الإباحة، والتشريع يتنوع إلى إباحة وندب وواجب وغيره، فهو أيضًا مصيب. وعلى هذا فلا بد من تحديد ما المقصود بكلمة تشريع أو غير تشريع، فإن الغموض في تحديد معاني المصطلحات يُوقِعُ في اللبس. والمعاصرون الذين بحثوا السنة غير التشريعية لم يحددوا معناها بكل دقة وضبط، ويوهم كلامهم أن المراد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس بتشريع، بمعنى أن منها ما لا يدل على حكم شرعي، حتى لو كان هذا الحكم الإباحة، وهو معنى خاطئ لا شك فيه. أما إذا كانوا يقصدون من مصطلح السنة غير التشريعية أنها تلك السنة التي ليس فيها إلزام، بمعنى أنها لا تدل على فرض أو حُرْْمَة، ولا تدل على ندب أو كراهة، بل تدل على إباحة، فصبيان المدارس يعلمون المباح من أقسام السنة. وهل ادعى أحد أن كل السنة في درجة واحدة من درجات الإلزام؟ ثم هل الإباحة ليست من التشريع؟ أليس تحليل الحلال من أهم مقتضيات الإيمان؟ ألا يقدح في الإيمان تحريم الحلال أو تحليل الحرام؟ فإذا كان الحل والجواز يمثل هذه الأهمية، فكيف تكون السنة التي تدل على هذا الحل، وهذه الإباحة سنة غير تشريعية؟ الحجة الثانية: خطط الرسول الحربية. وقد استدل على تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية بحادثة مشورة الحباب بن المنذر في غزوة بدر؛ حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله: فإن هذا ليس بمنزل، ثم أشار عليه بأن ينزل منزلا آخر . (260) وقد جعلت هذه الحادثة دليلا على أن تدبير الحروب من أقسام السنة غير التشريعية، وتأتي على هذا الاستدلال اعتراضات أساسية: 1- الحادثة نفسها غير ثابتة، فقد رواها ابن هشام في سيرته وفي روايته لها جهالة، ورواها الحاكم وفي سندها مَنْ لا يعرف، وقال عنها الذهبي: حديث منكر، وذكرها ابن كثير في (البداية والنهاية) وفي رواتها مُتَّهم (261) وإذا كانت الحادثة غير ثابتة فلا تقوم بها حجة. 2- وعلى فرض صحة ثبوت الحادثة فما وجه الدليل فيها؟ هل لأن النبي صلى الله عليه وسلم صدر فيها عن رأيه من غير وحي، ولهذا فهي سنة غير تشريعية، أم لأنه استشار أصحابه في الأمر ونزل عن رأيه لرأيهم؟ فعلى الصحيح مِنْ رأي العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد برأيه أحيانًا من غير وحي في بعض أحكام الشرع، وأحيانًا كان يشاور أصحابه في أمور لا يشك أنها من الأمور الدينية، فقد روي أنه شاور أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- في مفاداة الأسارى يوم بدر، فأشار عليه أبو بكر بأن يفادي بهم، ومال رأيه إلى ذلك، حتى نزل قوله تعالى: ( لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ومفاداة الأسير بالمال جوازه وفساده من أحكام الشرع، ومما هو حقٌّ الله تعالى، وقد شاور فيه أصحابه وعمل فيه بالرأي، إلى أن نزل الوحي بخلاف ما رآه. وقد شاورهم فيما يكون جامعًا لهم في أوقات الصلاة ليؤدوها بالجماعة. ثم لَمَّا جاء عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- وذكر ما رأى في المنام من أمر الآذان فأخذ بها، وقال: «ألقها على بلال»، ومعلوم أنه أخذ بذلك بطريق الرأي دون طريق الوحي. ألا ترى أنه لَمَّا أتى عمر وأخبره أنه رأى مثل ذلك قال: «الله أكبر.. هذا أثبت»، ولو كان قد نزل عليه الوحي به لم يكن لهذا الكلام معنى، ولا شك أن حكم الأذان مما هو من حق الله، ثم جوز العمل فيه بالرأي. (262) فإذا قيل: إن السنة غير التشريعية هي التي تصدر عن رأي الرسول من غير وحي، إذ أنها حينئذ صادرة عنه بوصفه بَشَرًا، فهلا قيل: إن الأذان من السنة غير التشريعية؛ لأنه صدر عن رأي من غير وحي، أو هلا قيل: إن مسألة مفاداة الأسرى من السنة غير التشريعية؛ لأن الرسول قد حكم فيها برأيه، ثم خَطَّأه الوحي. ولعله يحسن في هذا المقام أن نبين أنه لا فرق في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يأتي بها الوحي أو تصدر عن رأيه، وذلك أنه بخلاف ما يكون من الرأي من غيره من المجتهدين؛ فإن النبي لا يقر على الخطأ. فإذا بَيَّنَ أمرًا من رأيه وأقر عليه كان ذلك صوابًا لا محالة، وصار ذلك بسكوت الوحي عليه وموافقته له ضِمْنًا، وإقراره عليه، كأنه صدر من الوحي ابتداء. والدليل على هذه القاعدة ما روي أن خولة -رضي الله عنها- لَمَّا جاءت إليه تسأله عن ظهار زوجها منها قال: «ما أراك إلا قد حرمت عليه»، فقالت: إني أشتكي إلى الله، فأنزل الله تعالى قوله: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ ) وبَيَّن فيها حكم الظهار. فعرفنا أنه كان يفتي بالرأي في أحكام الشرع، وكان لا يقر على الخطأ، وهذا لأنا أمرنا باتباعه؛ قال تعالى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) وحين بين بالرأي وأقر على ذلك كان اتباع ذلك فرضًا علينا لا محالة، فعرفنا أن ذلك هو الحق المتيقن به، ومثل ذلك لا يوجد في حق الأمة؛ فالمجتهد قد يخطئ . (263) ولعله من الطريف حقًّا أن نعلم أن (ابن كثير) أضاف إلى الرواية حادثة الحباب بن المنذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعد ذلك جبريل، وملك، فقال له الملك: إن الله يقول لك: إن الأمر هو الذي أمرك به الحباب بن المنذر. (264) فإذا قبلنا ثبوت حادثة الحباب هذه، فينبغي أن يعلم أن الوحي قد أقرها صراحة، فلا تكون راجعة إلى الرأي والخبرة وحدها. الحجة الثالثة: حديث تلقيح النخل: من أقوى حجج اشتمال السنة على أمور غير تشريعية (هي الشئون الدنيوية) حديث تلقيح النخل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». وفيما يلي عدد من الروايات الصحيحة لهذا الحديث : 1- عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال: «ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظن ذلك يغني شيئًا» فأخبروه فتركوه. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به؛ فإني لن أكذب على الله عز وجل». رواه مسلم(265) 2- عن رافع بن خديح قال: قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُأبِّرون النخل (يلقحون النخل) فقال: «ما تصنعون؟» قالوا: كنا نصنعه، قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا»، فتركوه فنفضت (يعني أسقطت ثمرها)، قال: فذكروا ذلك، فقال: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر». رواه مسلم (266) 3- عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقوم يلقحون النخل فقال: «لو لم تفعلوا لصلح»، فخرجت شَيصًا (الشيص: هو التمر الرديء)، فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». رواه مسلم (267) 4- عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتًا، فقال: «ما هذه الأصوات؟» قالوا: النخل يؤبرونه يا رسول الله، فقال: «لو لم يفعلوا لصلح»، فلم يؤبروا عامئذ فصار شيصًا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ». رواه الإمام أحمد. (268) ويقول (الدكتور العوا) عن هذا الحديث: « ولو لم يكن غير هذا الحديث الشريف في تبيين أن سنته صلى الله عليه وسلم ليست كلها شرعًا لازمًا وقانونًا دائمًا لكفى.ففي نص عبارة الحديث بمختلف رواياته تبين أن ما يلزم اتباعه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان مستندًا إلى الوحي فحسب، وذلك غالبه متعلق بأمور الدين، وأقله متعلق بأمور الدنيا، وليس أوضح في الدلالة على هذا من خبرة لي بالنخل ـ إذ ليس في مكة نخل ـ أو لا أحسن الزراعة فبلدي واد غير ذي زرع، ولكنه -عليه الصلاة والسلام- تخير أحسن العبارات وأجمعها، وجعل من حديثه في هذه المسألة الجزئية، قاعدة كلية عامة، مؤداها: أنه في ما لا وحي فيه من شئون الدنيا فالأمر للخبرة والتجربة والمصلحة، التي يحسن أرباب الأمر معرفتها دون من لا خبرة له به. فلم يكن الجواب قاصرًا على مسألة تلقيح النخل، وإنما جاء شاملا لكل أمر مما لم يأت فيه وحي بقرآن أو سنة. (269) وفهم الحديث على هذا النحو قال به أيضًا (سيد خان)، وعدد من المحدثين وتوسع فيه بعضهم حتى حصر الدين في العقائد والعبادات فقط، وللمرء أن يسأل هنا: هل كان الناس يفهمون الحديث على هذا النحو قبل هؤلاء. من مطالعة شروح هذا الحديث والتعليقات عليه (270) ، ومن المتأمل في رواياته تتجلى الأمور التالية: 1- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه أمر للقوم بترك التلقيح، ولم يصدر منه خبر أن التلقيح مفيد أو غير مفيد، بل هو قد ظن ظنًّا وأساء القوم فهم هذا الظن، فتركوا التلقيح بناء عليه. يقول ابن تيمية موضحًا ذلك: «...وهو صلى الله عليه وسلم لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط في ظنه أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود» . (271) ويؤكد النووي هذه الحقيقة فيقول: «... قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرًا، وإنما كان ظنًّا كما بينه في هذه الروايات». (272) والروايات التي يشير إليها النووي هي ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما أظن يغني ذلك شيئًا».. فأخبروا بذلك فتركوه وحين لم يثمر النخل قال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه؛ فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن». 2- جاء في روايات هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف قائلا: « أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وتضيف رواية أخرى أنه قال: « إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ». فماذا يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور الدنيا؟ لدينا على الأقل مثال واحد عن المقصود بأمور الدنيا لا يثور حوله جدل، وهو تلقيح النخل، وحتى هذا المثال الوحيد لم يصدر عن النبي فيه خبر صريح أو أمر جازم، وهكذا الحال في أقرب الأمور شبهًا بتلقيح النخل وأمور الفلاحة، فإننا لا نجد خبرًا عن الرسول عن كيفية خياطة الملابس مثلا، أو عن كيفية صنع السيوف والدروع، وعن كيفية طبخ الأطعمة أو نصب الخيام، أو أمثالها من معايش الدنيا. فلَمَّا لَمْ نجد ذلك علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مهمته أن يبين هذه الأمور، وإنما مهمته أن يبين أمور الدين، ولهذا قال لهم: « إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ». وقال لهم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم ». فكل ما بينه الرسول وجاءت به سنته فهو من أمور الدين، وأما معايش الدنيا من مثل الأمور المذكورة، فلم يتعرض لها الرسول ببيان. 3- ومما يؤكد أن كل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من أمور الدين شيئان: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا فَرقًا واضحًا في سنته بين أمور الدنيا وأمور الدين، ولو كان مثل هذا التقسيم حقيقة قائمة لأوضح لنا كيف نميز بين القسمين تمييزًا لا نقع معه في لبس؛ لأن الحاجة - لا شك - ماسة لمثل هذا التمييز، فلما لَمْ نجد بيانًا عن الرسول مع قيام الحاجة إليه تأكدنا أن التقسيم إلى سنة خاصة بأمور الدين، وسنة خاصة بأمور الدنيا تقسيم لا وجود له. وحتى أولئك الذين وَلَّدَ وَهْمُهُمْ هذا التقسيم، لم يستطع أحد منهم أن يقدم معيارًا صحيحًا للتمييز بين ما ظنوه سنة تشريعية وغير تشريعية، ولن يستطيعوا؛ لأن هذا التمييز لا يقوم إلا في أذهانهم فقط. والثاني : أن الصحابة والتابعين وأئمة المجتهدين والفقهاء وقادة الرأي والفكر خلال أربعة عشرة قرنًا، لم يعرف أحد منهم أنه ردَّ سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة أنها خاصة بأمور الدنيا، مع كثرة اختلافهم، ورد بعضهم على بعض عند تعارض الأدلة. الحجة الرابعة: الأحاديث النبوية عن الطب يشرح المستشرق (موريس بوكاي) هذه الحجة كالآتي: هناك بعض الأحاديث غير المقبولة علميًّا في مواضيع الطب والمعالجة، ومع أن هذه الأحاديث صحيحة إلا أن الحديث قد يكون صحيحًا لا شك فيه، ولكنه قد يكون متعلقًا بشأن من شئون الدنيا مما لا وحي فيه، وعندئذ لا فرق في ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره مِنَ البشر؛ لحديث « أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وهذه الأحاديث المتعلقة بموضوعات طبية تعطينا صورة عن مفاهيم ذلك العصر وآرائهم في مثل هذه المواضيع الطبية. وللتدليل على رأيه سرد عددًا من الأحاديث المتعلقة بالطب، والتي يرى أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث، وفيما يلي نقوم بتصنيف هذه الأحاديث التي ذكرها، وننظر هل صحيح أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث؟ وهل صحيح ما استنتجه من أنها ناشئة عن الخبرة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فقط؟ ويمكن تصنيف هذه الأحاديث على النحو التالي : 1- الأحاديث المتعلقة بالعين والسحر. ولا أدري ما الحقيقة العلمية التي تناقض هذه الأحاديث؟! ففضلا عن أن مسائل العين والسحر لا تدخل في نطاق الطب التجريبي الغربي الحديث، فإن القرآن قد أثبت أيضًا السحر والعين، ولا يوجد دليل علمي واحد ينفي وجودهما، فكيف ينكر أمر تَضَافَرَ على إثباته القرآن والسنة اعتمادًا على تصور مادي بحت لا يقوم إلا على الظن. 2- الأحاديث التي أشارت لبعض الخواص الطبية العلاجية لبعض الثمار مثل التمر أو الحبوب مثل الحبة السوداء، أو بعض الأغذية مثل لبن الناقة. ومن العجيب أن يستريب أحد فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وجود خصائص علاجية في هذه المواد، وإلا فمن أين تستخرج الأدوية قديمًا وحديثًا؛ ألا تستخرج من مثل هذه المواد؟ 3- الحديث الذي أخبر عن استخدام بول الإبل كدواء. ومن الثابت طبيًّا أن البول حتى بول الإنسان ليس ضارًّا إذا شرب، بل إن هناك أدوية فعالة جدا تستخرج الآن من البول، وقد بدأت الدراسات الحديثة تتسع في هذا المضمار. 4- الأحاديث التي تشير إلى أن من أصول العلاج ثلاث: الكي والأشربة والجراحة (شرطة محجم)، فهل تغيرت طرق العلاج هذه، أم كل ما هناك أنه قد أصبحت وسائل متقدمة لاستخدامها. (من مظاهر سوء الفهم حصر الكي أو غيره في كيفية معينة، فالحديث لم يتعرض لهذه الكيفية، إنما أشار فقط لأصول طرق العلاج). 5- الحديث الذي يشير إلى أن الذباب ينقل في بعض أجزاء جسمه سمومًا، وأن في بعض أجزاء جسمه الأخرى مضادات لتلك السموم، وكل ما يمكن أن يقال من الناحية الطبية أن العلم لم يكتشف ذلك حتى الآن، ولكن هل يستطيع أحد أن يجزم بنفي إمكان اكتشاف ذلك مستقبلا. 6- الحديث الذي يشير إلى أن الْحُمَّى من فيح جهنم، وينصح بإبرادها بالماء. واستعمال الضمادات المثلجة لإنزال حرارة الحمى هو من طرق العلاج المستخدمة الآن، أما كون الحمى من فيح جهنم فهناك تفسيران لذلك: أولهما أن حرارة الحمى شبيهة بحرارة جهنم، وهذا لا اعتراض عليه. والثاني: أن هناك صلة حقيقية بين حرارة الحمى وبين جهنم؟ فهل يستطيع بشر بأي تجربة علمية أن يثبت أن مثل هذه الصلة لا يمكن أن توجد؟ إن جهنم من أمور الغيب، والنبي صلى الله عليه وسلم هو وحده الخبير بأمور الغيب. 7- الأخبار بأن هناك جنسًا من الثعابين يسبب العمى ويُسْقِطُ الْحَمْل، وهذا النوع من الثعابين نوع معروف حتى الآن وموجود ومشهور، ويُعْرف باسم الكوبرا Copصلى الله عليه وسلمa، ومن المعروف عنه أنه يصوب سمَّه إلى عين فريسته ليعميها. أما إسقاط الحمل فقد يكون بسبب الفزع من رؤيته، أو بسبب سمه إذا لدغ. وهكذا فالنظر في الأحاديث التي ساقها (موريس بوكاي) نخلص إلى أنه ليس فيها حديث واحد يخالف حقائق العلم الحديث، وفي حقيقة الأمر لا يستطيع أحد أن يعثر على حديث من هذا النوع، إنما الذي يوقع في الالتباس ويوهم أن هناك تناقضًا إما سوء فهم الحديث أو الجهل بالعلم الحديث. ولهذا فإن الطريقة المثلى إذا وقع في نفس المرء الْتِبَاس من هذا النوع، أن يتثبت من صحة الحديث، ويراجع شروحه، ويستوثق من فهم الحديث على وجهه الصحيح، ويسأل في المسائل العلمية جهات الاختصاص، ولا يسارع إلى الإنكار ورد الأحاديث الصحيحة، ففضلا عن أن ذلك ليس منهجًا علميًّا صحيحًا، فهو ليس سبيل الذين رسخ الإيمان في قلوبهم. ويحسن التنويه هنا بأمرين: أولهما : إن مثل هذه الاعتراضات لم تظهر في عصرنا هذا فحسب، ولكنها ظهرت في العصور الماضية، ولم تكن تصدر إلا مِمَّن عرف عنهم انحراف في التفكير، فهذا ابن قتيبة مثلا من علماء القرن الثالث الهجري يؤلف كتابًا في الردِّ على أعداء أهل الحديث، والجمع بين الأخبار التي ادَّعوا عليها التناقض والاختلاف، والجواب عما أوردوه مِنَ الشُّبه على بعض الأخبار المتشابهة أو المشكلة بادئ الرأي . (273) وثانيهما: أن مِنْ بعض ما ظن الناس فيه تناقضًا مع ما عندهم من المعرفة في عصرهم، قد ظهر خطؤه في هذا العصر مع تقدم العلم، ومن ذلك: الأمر بغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب. وقد نقل الخطابي من علماء القرن الرابع الهجري اعتراضًا على أحد الأحاديث فقال: « اعترض بعض سخفاء الأطباء على حديث إبراد الْحُمَّى بالماء بأن قال: اغتسال المحموم بالماء خطر يقرِّبه من الهلاك؛ لأنه يجمع المسام ويحقن البخار، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف». ثم ردَّ الخطابي على ذلك بأن قال: « وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث، والجواب أن هذا الإشكال صَدَرَ عَنْ صَدْرٍ مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولا: من أين حملت الأمر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية.. إلى أن قال: «وإنما قصد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه ينفع، فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به ». (274) ولا أظننا في هذا العصر -الذي أصبح فيه إبراد الحمى بالماء طريقة طبية مستخدمة- نقابل ذلك الاعتراض المثار بغير السخرية من جهل صاحبه وجنايته على الطب وعلى الدين. وفي حقيقة الأمر فإن الطب النبوي كله يحتاج لدراسة دقيقة، وربما توصل الناس عن طريق البحث والتجارب إلى اكتشافات عظيمة، ولو كانت هذه الثورة العلمية عند الغربيين لأفادوا منها كثيرًا، ولكن المسلمين اليوم متأخرون متخلفون في كثير من مجالات الحياة. الحجة الخامسة : تصرفات الرسول بالرسالة وبالإمامة والقضاء : قسم (الإمام القرافي) تصرفات الرسول إلى أنواع: تصرفات بوصفه رسولا، وبوصفه مفتيًا، وبوصفه قاضيًا، وبوصفه إمامًا (رأس دولة) (275) وقد ذهب مَنِ احتج بهذا التقسيم إلى أن تصرفات الرسول في القضاء والإمامة ليست من السنة التشريعية الملزمة . (276) وإذا تمعنَّا في هذا الذي ذكره الإمام القرافي يتضح أن المقصود من تقسيم تصرفات الرسول -عليه السلام- إلى تصرفات بالرسالة وبالقضاء وبالإمامة، هو التفرقة بين الأمور الخاصة بالسلطة التنفيذية، والتي لا يجوز للأفراد العاديين مباشرتها، والتي تختص بالسلطة القضائية، والتي لا يجوز لعامة الأفراد ممارستها إلا بعد حكم قضائي وإذن، وبين الأمور التي تُرِكَ للناس الحرية في التصرف فيها دون حاجة إلى إذن من السلطات. فالمقصود من كلام (القرافي) البحث عن ذلك في تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا للاختصاصات، وتوزيعات للسلطات، وحصرًا لِمَا يدخل تحت اختصاص كل سلطة من سلطات الدولة. ولا يفهم من كلام (القرافي) بحال أن تصرفات الرسول في قسم الإمامة والقضاء ليست تشريعية. بل إن صفة الرسالة -وهي الوظيفة التشريعية- لا تفارق الرسول حتى وهو حين يتصرف باعتباره رأس دولة، أو حين ترفع إليه الخصومات ويقضي فيها بوصفه قاضيًا. فهو حين يقسم الغنائم، أو حين يقيم الحدود، أو حين يعلن الحروب وكل ذلك من تصرفات الإمامة (رأس الدولة)، فتشريعه في هذه الأمور تشريع لازم لكل إمام بعده، وكذلك أحكامه القضائية. السنة تشريع كلها : والخلاصة أن السنة تشريع كلها ما كان منها أقوالا أو أفعالا. يقول ابن تيمية: «إن جميع أقواله يستفاد منها شرع... ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب». (177) وقد روي أن عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «اكتب.. فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق» يعني شفتيه الكريمتين. (278) أما الأفعال فأيضًا كلها تشريع، إلا تلك الأفعال الْجِبِليَّة التي لا يدخل في طوع بشر اختيار كيفيتها وهيئتها. شريعة الله وشريعة الفقهاء المبدأ الثاني الذي تحاول (العصرانية) أن تضع به خطًّا فاصلا بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري، هو مبدأ التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء، فتوصف الأولى بالثبات والدوام، وتوصف الثانية بالتغير والتقلب حسب ظروف العصر. يكتب أحمد كمال أبو المجد عن ذلك فيقول: «إننا نؤكد ضرورة التمييز بين الشريعة والفقه؛ فالشريعة هي الجزء الثابت من أحكام الإسلام، الثابت في النصوص القطعية في ورودها ودلالتها، والفقه تفسير الرجال لهذا الجزء الثابت المستمد مباشرة من النصوص القطعية وقياساتهم عليه، واجتهاداتهم فيما لا نصَّ فيه، وترجيحهم بين ما بَدَا تعارضه من الأدلة، وهو اجتهاد بشر يتفقون ويختلفون، وقلَّما يجتمعون، وخطؤهم وصوابهم ليس تشريعًا، ولكنه يعكس خطَّ كل واحد منهم من المعرفة بالوقائع ومصادر الأحكام، وقواعد التفسير وأصول الترجيح، كما يعكس ظروف الزمان والمكان.. ويعكس بعد ذلك كله رأيه ورؤيته للقيم والمصالح والاعتبارات.. وهو في ذلك كله يرمز إلى الجزء المتغير من تراث الإسلام. وباطل قول مَنْ قال: إن الأول لم يترك للآخر شيئًا... فقد ترك له عَالَمًا كاملا غير عالمه، ودنيا غير دنياه... وتجربة جديدة لا تغني عنها تجربة قديمة. فتلك أمة قد خلت، ولا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ». (279) أما أن الشريعة تشتمل على نصوص منزَّلة من عند الله تعالى، وعلى تفسير الرجال لتلك النصوص، واجتهادهم فيما لا نَصَّ فيه فذلك حَقٌّ لا مراء فيه. أما وصف فقه الرجال بالتغير وعدم الثبات فهو الموضع الذي يحتاج إلى فحص وتأمل. ذلك أن كلمة التغير كلمة تحتمل معاني متعددة، فمن الخطأ البَيِّن أن يقصد منها اطراح فقه العصور الماضية، والبدء في تدوين فقه عصري جديد. «وإذا قرر الجيل الحاضر أن يعرض عن كل ما أنجزته الأجيال الماضية من عمل وجهد، وأن يؤسس له بناءً جديدًا، على قواعد جديدة، فإن للأجيال الآتية بعده أن تتخذ قرارًا سفيها مثل هذا. ولذا فإن شعبًا لم يفارقه العقل لا يبيد الجهود والأعمال التي تمت على أيدي أسلافه، وإنما يتقدم إلى الأمام مضيفًا إلى الأعمال السابقة أعمالا جديدة لم يُتَحْ للأولين أن يقوموا بها، وهكذا لا يزال يتقدم بخطي حثيثة في ميدان الكمال والارتقاء ». (280) إن الفقهاء الأوائل بَشَرٌ ما في ذلك شك، لا يعني ذلك أن ما قالوه فهو خطأ يجب اطراحه. أو لَسْنَا أيضا بشرًا، فما الذي يجعل لنا فضلا عليهم؟ إن فقه الأولين فيه الخطأ والصواب، وكل ذي عقل يرى أن ما كان صوابًا قبلناه، وما كان خطأ طرحناه. وإذا كان تقسيم الشريعة إلى شريعة الله وشريعة الفقهاء له إيحاءات خاطئة، فالأفضل منه أن يجعل التقسيم أكثر تفصيلا، حتى يكون أكثر بيانًا ووضوحًا. وقد قسم الإمام ابن تيمية الشريعة إلى ثلاثة أقسام (281) : شريعة منزلة وهي القرآن والسنة، وشريعة اجتهادية وهي ما توصل إليها عن طريق الاجتهاد، وشريعة محرمة وهي التي يظن أنها من الشرع وهي محض انحرافات. فالشريعة الاجتهادية تتعدد الآراء فيها في المسألة الواحدة، ونقبل ونرفض منها بحسب الأدلة، أما الانحرافات والتحريفات فمرفوضة كلها. ( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 242-259). ------------------------------------------- (254) راجع آراء جايجر ص 118، وسباتيه ص 135 من هذا البحث. (255) (علم أصول الفقه)، عبد الوهاب خلاف، ص 44. (256) انظر ص 133 من هذا البحث. (257) (الخيط الرفيع بين التجديد في الإسلام والانفلات منه)، مجلة العربي، ص 16، العدد 225، أغسطس 1977م. (258) انظر ص 190 من هذا البحث. (259) (إرشاد الفحول)، الشوكاني، ص 33. ومن الصحابة مَنْ كان يقتدي بالرسول حتى في بعض أفعاله الجبلية البشرية، فقد كان عبد الله بن عمر يتتبع مواطن قيامه وقعوده، ويقتدي به فيها كما هو معروف عنه رضي الله عنه، ومنقول في كتب السنة. (260) (سيرة ابن هشام)، ج 2 ص 259. (261) (سيرة ابن هشام)، ج 2 ص 259، و(المستدرك) للحاكم، ج3 ص 426، و(البداية والنهاية) لابن كثير، ج 3 ص 267، و(زاد المعاد) لابن القيم، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، ج3 هامش ص 175. (262) أصول السرخسي، ج 2 ص 93. وحادثة أسارى بدر ثابتة في كتب السنة، ومن ذلك مسلم، راجع (تفسير القرطبي)، ج 8 ص 45. وقصة الآذان ثابتة أيضًا في كتب السنة، ومنها: البخاري ومسلم، راجع (نيل الأوطار)، ج 2 ص 35. (263) (أصول السرخسي)، ج 2 ص 95، وراجع في قصة خولة تفسير القرطبي، ج 17 ص 270. (264) (البداية والنهاية)، ابن كثير، ج 3 ص 267. (265) (شرح مسلم النووي)، ج 15 ص 116. (266) نفس المصدر ص 117. (267) نفس المصدر ص 118. (268) (المسند)، 6/ 123. (269) (السنة التشريعية وغير التشريعية)، مجلة المسلم المعاصر، العدد الافتتاحي، ص 29. (270) انظر (شرح مسلم للنووي)، 15/116، وشرح الآبي لمسلم، وشرح السنوسي ج 6 ص 153. (271) (فتاوى ابن تيمية) ج 18 ص 12. (272) (شرح مسلم للنووي)، ج 15 ص 117. (273) الكتاب مطبوع بمصر بمطبعة (كردستان العلمية)، عام 1326هـ. وراجع ص 289 عن الحجج التي أوردها في الرد على حديث: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه؛ فإن في أحد جناحيه سُمًّا، وفي الآخر شفاء». فقد ذكر أن الحديث صحيح، وأورد رواياته وألفاظه، ثم ناقش ذلك في ضوء الفلسفة (كان الطب في عصرهم من علوم الفلسفة) وكانت حججه تدور على أن الاعتراض لا يقوم على حقيقة فلسفية (طبية) صحيحة. (274) (فتح الباري)، ابن حجر، ج 12 ص 283. (275) انظر (الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وتصرفات القاضي والإمام)، للإمام القرافي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ص (86 - 109). (276) (فتاوى ابن تيمية)، ج 18 ص 12. (177) نفس المصدر، ص 8. (278) نفس المصدر، ص 8. (279) (مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر)، مجلة العربي، ص 22، العدد 222، مايو 1977م. (280) (مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة)، المودودي، ص 172. (281) (فتاوى ابن تيمية) ج 9 ص 308.
المهتــــدین
|
|
|
|
|